أولم يقل

أولم يقلأولم يقل

  • الرئيسية
  • الخالق
  • الخلق
  • الرسل
  • النصوص
  • المنظورات

عبر التاريخ، تميّز أناس لم يسعوا إلى الشهرة، بل حملوا رسالة أعظم من ذواتهم. هؤلاء هم الرسل — أُرسلوا ليذكّروا البشر بالغاية، والعدل، والرحمة. لم يكونوا خطباء بالكلمات فقط، بل جعلوا حياتهم ترجمة حيّة لما نطقوا به، فساروا على ما دعوا إليه.

الرسل والأنبياء

كلٌّ من الرسل والأنبياء اصطفاهم الله، غير أن لكلٍ منهم دورًا متميّزًا.

النبي هو من أوحى الله إليه، ليعمل أو ليهدي قومًا يسيرون على شريعة سابقة، محافظين على نور الهداية الذي جاء به رسول من قبله.

أما الرسول فهو من أُرسل بشريعة جديدة، أو رسالة متجددة لقوم ضلّوا عن الطريق. فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا.

يمكن أن نقول: الأنبياء يحافظون على النور، والرسل يشعلونه من جديد. كلاهما يذكّر الإنسان أن الحياة ليست عبثًا، وأن الرحمة تسبق العقوبة، وأننا مسؤولون أمام خالقنا عن الطريق الذي نسلكه.

صفات الرسل

كانوا بشرًا مثلنا، لكنهم تميّزوا بصفاء القلب وقوة الإرادة. قوتهم لم تكن من مالٍ أو نسب، بل من ثباتٍ وصبر. صدقوا حين كان الكذب أيسر، وثبتوا حين سُخر منهم، وأمَلوا حين خذلهم الناس. قلوبهم كانت معلّقة بالإيمان لا بالظروف.

كانت أخلاقهم فوق العيب — لا يرتكبون فاحشة، ولا يخونون، ولا يظلمون. كانوا صادقين أمناء حكماء. وإن لم يكونوا معصومين من طبيعة البشر، إلا أنهم كانوا مثالًا للكمال في الخُلق والعمل.

عاشوا بين أقوامهم — يأكلون، ويتاجرون، ويحزنون، ويفرحون — حتى لا يقول أحد: “أنتم لا تفهموننا.” لكن الذي ميزهم هو انسجام القول مع الفعل. جسّدوا العدل بلا كبرياء، والتواضع بلا ضعف، والرحمة بلا تنازل.

كانوا معصومين في تبليغ رسالة ربهم — لم يبدّلوا فيها ولم يخفوا منها شيئًا.

ولم تكن معجزاتهم استعراضًا للقوة، بل تحديًا لعلم أقوامهم، لتبيّن أن الحق الإلهي يسمو على كل ما يصنعه البشر.

واجبنا تجاههم

وظيفة كل رسول أن يبلّغ الرسالة — لا أن يُعبد، بل أن يدلّ القلوب على من أرسله. كلماته لم تكن غاية، بل طريقًا إلى المنبع الذي صدرت منه. وكما ورد في الإنجيل: "الذي أرسلني أعظم مني" (يوحنا 14:28). فالعظمة ليست في المرسَل، بل في المرسِل.

اتباع الرسل إذًا هو السير على الطريق الذي رسموه — طريق العودة إلى الخالق جلّ شأنه. وتعاليمهم تتجدّد في كل عصر: الاستسلام للذي خلقك هو السلام الحقيقي.

لو كنا في زمن موسى، لكان واجبنا اتباع موسى. ولما جاء عيسى، اتبعه المخلصون حقًا. أما اليوم، وبعد بعثة محمد ﷺ، فإن طريق الوصول إلى الخالق — وإلى النعيم الأبدي — هو في اتباع ما جاء به.

سير الرسل

نوح (نُوح)

عاش نوح في زمنٍ انقلب فيه الشكر إلى كِبر، والإيمان إلى غفلة. عبد الناس الأصنام واستغنوا عن الحق. فاختاره الله ليوقظ القلوب — ليعلّمهم أن الحق لا يُورث، بل يُختار. دعا قومه قرونًا فلم يؤمن إلا قليل، فكان صبره أعظم معجزة قبل الطوفان نفسه.

لما صنع السفينة في أرضٍ لا بحر فيها، سخروا منه، وعدّوه مجنونًا. ثم جاء وعد الله، فانفجرت الأرض، وأمطرت السماء، وغرقت الأرض. حملت السفينة المؤمنين والأزواج من كل نوع، وترك الخارجين يغرقون في كبريائهم.

قصة نوح ليست عن الغرق بقدر ما هي عن الثبات. رأى الكفر في أهله، في زوجته وابنه، لكنه لم يجزع. تسعمائة وخمسون عامًا من الدعوة كانت شاهدًا على إيمانٍ لا يرى إلا عدل الله ولو غاب النصر.

إبراهيم (إِبْرَاهِيم)

وُلد إبراهيم في أمةٍ تصنع الأصنام بيديها ثم تسجد لها. تساءل منذ صباه: "كيف يكون ربًا من يأفل؟" نظر إلى الكواكب، والقمر، والشمس، ثم تجاوزها جميعًا إلى من أوجدها. بحثه عن الدائم قاده إلى الله.

حطّم الأصنام ليُري قومه عجزها، فألقوه في النار، فكانت بردًا وسلامًا. هناك التقت الحجة بالإيمان. هاجر بعدها بين بلاد الرافدين وكنعان وصحراء العرب، يبني المذابح لا للمكان، بل للمعنى.

اختُبر في أغلى ما يملك — ابنه — ليُدرك أن الطاعة نفسها هي القربان. صار أبًا لأمم: نسل إسماعيل إلى العرب ومحمد ﷺ، ونسل إسحاق إلى بني إسرائيل وعيسى عليه السلام. إبراهيم هو الحجة الحيّة على أن الإيمان يبدأ بالتفكّر وينضج بالتسليم.

موسى (مُوسَى)

بدأت قصة موسى بالنجاة من الموت — رضيعًا في تابوت، يُلقى في النيل فرارًا من بطش فرعون. ربّاه القصر الذي أراد هلاكه. كبر، فرأى الظلم بعينيه، فهرب إلى مدين، وهناك كُلّف بالرسالة عند النار التي لم تحرق بل أضاءت.

عاد بعصاه وإيمانه ليواجه من ادّعى الألوهية. جاءت الآيات — الدم، والضفادع، والبحر المنفلق — لتُعلن أن الحق لا يُقهر. قاد قومه نحو الحرية، رغم ترددهم وشكّهم.

وفي سيناء تلقّى الألواح — شرعًا ونظامًا يهدي الإنسانية. كان صبره امتحانًا مستمرًا، وحواره مع ربه مدرسة للقيادة المؤمنة. يمثل موسى الحرية المؤسّسة على الإيمان، والشجاعة المقرونة بالتواضع.

عيسى (عِيسَى)

جاء عيسى إلى عالمٍ أثقلته الطقوس وأرهقه الجفاف الروحي. وُلد من مريم الطاهرة دون أب، وتكلّم في المهد مبينًا رسالته. لم يكن داعيًا لثورة على شريعة موسى، بل لإحياء روحها التي خمدت.

أبرأ الأكمه والأبرص، وأحيا الموتى بإذن الله. لكن أعظم معجزاته كانت الرحمة — تلك التي كسرت قسوة القلوب. جلس مع الفقراء، وواجه النفاق، وعلّم أن الغفران قوة لا ضعف.

ولما اشتد العداء، رفعه الله إليه، لتبقى رسالته شاهدة أن الحق لا يُصلب. حياة عيسى كانت درسًا في أن الروحانية ليست هروبًا من الدنيا، بل إحياءً لها بالرحمة.

محمد (ﷺ)

في صحراءٍ قاسية، حيث الجهل زينة والعدل غريب، عُرف محمد بالأمين. ولما بلغ الأربعين، نزل عليه الوحي في غار حراء، فانقلب تاريخ البشرية.

دعا قومه إلى نبذ الأصنام، وتكريم النساء، وعتق العبيد، وطلب العلم. واجه العناد بالسلوك قبل القول، فغلب القلوب بخلقه. وكان القرآن معجزته الباقية — بيانًا وشريعةً ونورًا.

بعد سنوات من الأذى والنفي، عاد إلى مكة فاتحًا بلا انتقام، معلنًا العفو العام. وخلال ثلاثة وعشرين عامًا، تحوّل مجتمع متناحر إلى أمة موحّدة على العدل والإيمان. اكتملت برسالته السلسلة، فجمعت الوحي والعقل والرحمة في طريقٍ واحد.

كانت حياته خاتمة دعوات الرسل، لا غزوًا بل إتمامًا — ليعيد الإنسانية إلى أصلها: معرفة خالقها والسير بنوره.

اختلفت أزمان الرسل وأوطانهم، لكن جوهر دعوتهم واحد: إعادة الإنسان إلى التوازن — بين الجسد والروح، والعقل والقلب، والعدل والرحمة. لم يكونوا أساطير، بل بشرًا صالحين عاشوا كما ينبغي أن نعيش، ليُرينا الله من خلالهم معنى الاستقامة في عالمٍ مضطرب.